سورة الحجرات - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحجرات)


        


يقول الحق جلّ جلاله: {يا أيها الذين آمنوا} تصدير الخطاب بالنداء، تنبيهُ المخاطبين على أنَّ في حيّزه أمر خطير يستدعي اعتنائهم بشأنه، وفرط اهتمامهم بتلقيه ومراعاته، ووصفهم بالإيمان لتنشيطهم، والإيذان بأنه داع إلى المحافظة عليه ووازع عن الإخلال به، {لا تُقدِّموا} أي: لا تفعلوا التقديم، على ترك المفعول للقصد إلى نفس الفعل من غير اعتبار تعلقه بأمرٍ من الأمور، على طريقة قولهم: فلان يعطي ويمنع، أو: لا تُقدّموا أموراً من الأمور، على حذف المفعول، للعموم، أو: يكون التقديم بمعنى التقدُّم، من قدّم اللازم، ومنه: مقدمة الجيش، للجماعة المتقدَّمة، ويؤيده قراءة مَن قرأ: {لا تَقدَّموا} بحذف أحدى التاءين، أي: لا تتقدموا {بين يدي اللّهِ ورسولهِ}: لا تقطعوا أمراً قبل أن يحكما به، وحقيقة قولك: جلست بين يدي فلان: أن تجلس بين الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله قريباً منه، فسُميت الجهتان يدين؛ لكونهما على سمت اليدين مع القرب منهما، توسعاً، كما يُسمّى الشيء باسم غيره إذا جاوره.
وفي هذه العبارة ضرب من المجاز الذي يُسمى تمثيلاً، وفيه فائدة جليلة، وهي: تصوير الهُجْنَةِ والشناعة فيما نُهوا عنه من الإقدام على أمر من الأمور دون الاحتذاء على أمثلة الكتاب والسنة. ويجوز أن يجري مجرى قولك: سرَّني زيد وحُسْنُ ماله، فكذلك هنا المعنى: لا تُقدِّموا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: وفائدة هذا الأسلوب: الدلالة على قوة الاختصاص، ولمَّا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الله بالمكان الذي لا يخفى؛ سلك به هذا المسلك، وفي هذا تميهد لما نُقِم منهم من رفع أصواتهم فوق صوته؛ لأن مَن فضَّله الله بهذه الأَثْرة، واختصه بهذا الاختصاص، كان أدنى ما يجب له من التهيُّب والإجلال: إن لا يُرفع صوتٌ بين يديه، ولا يُقطع أمر دونه، فالتقدمُ عليه تَقَدمٌ على الله؛ لأنه لا ينطلق عن الهوى، فنبغي الاقتداء بالملائكة؛ حيث قيل فيهم: {لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ..} [الأنبياء: 27] إلخ.
قال عبد الله بن الزبير: قَدِمَ وفد من تميم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: لو أمَّرت عليهم القعقاع بن معبد، وقال عمر: يا رسول الله؛ بل أَمِّر الأقرعَ بن حابس؛ فقال أبو بكر: ما أردتُ إلا خلافي، وقال عمر: ما أردتُ خِلافَك، وارتفعت أصواتهما، فنزلت. فعلى هذا يكون المعنى: لا تُقَدِّموا وُلاةً، والعموم أحسن كما تقدّم. وعبارة البخاري: «وقال مجاهد: (لا تقُوموا) لا تَفْتاتُوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يَقضي اللّهُ- عزّ وجل- على لسانه». وعن الحسن: أن ناساً ذبحوا يوم الأضحى قبل الصلاة، فنزلت، فأمرهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يعيدوا، وعن عائشة: أنها نزلت في النهي عن صوم يوم الشك.
{واتقوا اللّهَ} في كل ما تأتون وتذرون من الأحوال والأفعال، التي من جملتها ما نحن فيه، {إِنَّ اللّهَ سميع} لأقوالكم {عليم} بأفعالكم، فمن حقِّه أن يُتَّقى ويُراقَب.
{يا أيها آمنوا لا ترفعوا أصواتَكم فوقَ صوتِ النبي} شروع في النهي عن التجاوز في كيفية القول عند النبي صلى الله عليه وسلم، بعد النهي عن التجاوز في نفس القول والفعل، وإعادة النداء مع قرب العهد؛ للمبالغة في الإيقاظ والتنبيه، والإشعار باستقلال كل من الكلامين باستدعاء الاعتناء بشأنه؛ أي: لا تبلغوا بأصواتكم وراء حدٍّ يبلغه صوته صلى الله عليه وسلم، بل يكون كلامه عالياً لكلامكم، وجهره باهراً لجهركم، حتى تكون مزيّته عليكم لائحةً، وسابقته لديكم واضحة.
{ولا تجهروا له بالقول} إذا كلّمتموه {كجَهْرِ بعضِكم لبعضٍ} أي: جهراً كائناً كالجهر الجاري فيما بينكم، بل اجعلوا أصواتكم أخفض من صوته، واختاروا في مخاطبته القول اللين القريب من الهمس، كما هو الدأب في مخاطبة المهابِ المُعظّم، وحافظوا على مراعاة هيبة النبوة وجلالة مقدارها. وقيل: معنى: {لا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض}: لا تقولوا: يا محمد، يا أحمد، بل: يا رسول الله. يا نبي الله، ولمّا نزلت هذه الآية؛ ما كلّم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر إلا كأخي السِّرار.
وعن ابن عباس رضي الله عنه: أنها نزلت في ثابت بن قيس بن شمَاس، وكان في أذنيه وَقْر، وكان جَهْوَريَّ الصوت، وكان إذا تكلم رفع صوته، وربما كان يكلّم النبيَّ صلى الله عليه وسلم فيتأذّى من صوته. اهـ. والصحيح ما تقدّم. وفي الآية أنهم لم يُنهوا عن الجهر مطلقاً، وإنما نُهوا عن جهرٍ مخصوص، أي: الجهر المنعوت بمماثلة ما اعتادوه فيما بينهم، وهو الخلوّ عن مراعاة هيبة النبوة، وجلالة مقدارها.
وقوله: {أن تحبط أعمالُكم} مفعول من أجله، أي: لا تجهروا خشية أن تحبط أعمالكم، {وأنتم لا تشعرون} فإنَّ سوء الأدب ربنا يؤدي بصاحبه إلى العطب وهو لا يشعر. ولمّا نزلت الآية جلس ثابت بن قيس في بيته ولم يخرج، فتَفقَّده صلى الله عليه وسلم، فدعاه فسأله، فقال: يا رسول الله؛ لقد أُنزلت عليك هذه الآية، وإني رجل جهير الصوت، فأخاف أن يكون عملي قد حبط، فقال له صلى الله عليه وسلم: «لست هناك، تعيش بخير، وتموت بخير، وإنك من أهل الجنة».
وأما ما يُروى عن الحسن: أنها نزلت في المنافقين، الذي كانوا يرفعون أصواتهم فوق صوته صلى الله عليه وسلم فقد قيل: محْمله: أنّ نهيهم مندرج تحت نهي المؤمنين بدليل النص.
{إِنَّ الذين يَغُضُّون أصواتَهم عند رسول الله} أي: يخفضون أصواتهم في مجلسه، تعظيماً له، وانتهاءً عما عنه، {أولئك الذين امتحن اللّهُ قلوبَهم للتقوى} أي: أخلصها وصفَّاها، من قولهم: امتحن الذهب وفَتَنه: إذا أذابه، وفي القاموس: محنَه، كمنعه: اختبره، كامتحنه، ثم قال: وامتحن القول: نَظَرَ فيه ودبّره، والله قلوبَهم: شرحها ووسّعها، وفي الأساس: ومن المجاز: محنَ الأديمَ: مدّده حتى وسعه، وبه فسّر قوله تعالى: {امتحن اللّهُ قلوبَهم للتقوى} أي: شرحها ووسعها، {لهم مغفرة وأجرٌ عظيمٌ} أي: مغفرة لذنوبهم، وأجر عظيم: نعيم الجنان.
الإشارة: على هذه الآية والتي بعدها اعتمد الصوفية فيما دوَّنوه من آداب المريد مع الشيخ، وهي كثيرة أُفردت بالتأليف، وقد جمع شيخنا البوزيدي الحسني رضي الله عنه كتاباً جليلاً جمع فيه من الآداب ما لم يُوجد في غيره، فيجب على كل مريد طالب للوصول مطالعتُه والعملُ بما فيه.
والذي يُؤخذ من الآية: أنه لا يتقدم بين يدي شيخه بالكلام، لا سيما إذا سأله أحدٌ، فمِن الفضول القبيح أن يسبق شيخَه بالجواب، فإنَّ السائل لا يرضى بجواب غير الشيخ، مع ما فيه من إظهار علمه، وإشهار شأنه، والتقدم على شيخه. ومن ذلك أيضاً: ألاَّ يقطع أمراً دون مشورته، ما دام تحت الحجرية، وألاَّ يتقدم أمامه في المشي إلا بإذنه، وأن يغضّ صوته عند حضوره، بل لا يتكلم إلا أن يأذن له في الكلام، ويكون بخفض صوت وتعظيم.
قلت: وما زالت أشياخنا تأمرنا بالتكلم عند المذاكرة؛ إذ بالكلام تُعرف أحوال الرجال، وسَمِعتُ شيخ شيخنا، مولاي العربي الدرقاوي الحسني رضي الله عنه يقول: حُكّونا في المذاكرة؛ ليظهر العلم، وكونوا معنا كما قال القائل: حك لي نربل لك، لا كما قال القائل: سَفِّجْ لي نعسل لك. اهـ. لكن يكون بحثُه مع الشيخ على وجه الاسترشاد والاستعلام، من غير معارضة ولا جدال، وإلا وإلا فالسكوت أسلم.
قال القشيري: {لا تُقدّموا بين يَدي الله ورسوله} لا تعملوا في أمر الدين من ذات أنفسكم شيئاً، وقُفوا حيثما وُقِفْتم، وافعلوا ما به أُمِرْتُم، أي: اعملوا بالشرع لا بالطبع في طلب الحق، وكونوا من أصحاب الاقتداء والاتباع، لا من أرباب الابتداء أو الابتداع.
وقال في قوله تعالى: {لا ترفعوا أصواتَكم...} الآية، يُشير إلى أنه من شرط المؤمن: ألا يرى رأيَه وعقلَه واختيارَه فوق رأي النبي والشيخ، ويكون مستسلماً لرأيه، ويحفظ الأدب في خدمته وصحبته، {ولا تجهرا له بالقول كجهر بعضكم لبعض} أي: لا تخاطبوه كخطاب بعضكم لبعض، بل خاطبوه بالتعظيم والتبجيل، ولا تنظروا إليه بالعين التي تنظرون إلى أمثالكم، وإنه لحُسْن خُلقه قد يُلاعبكم، فلا تنبسطوا معه، متاجسرين عليه بما يُعاشركم من خُلقه، ولا تَبدأوه بحديث حتى يُفاتحكم، أن تحبط أعمالكم بسوء أدبكم، وأنتم لا تشعرون. إنَّ الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله وعند شيخه أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى، أي: انتزع عنها حبّ الشهوات، وصفّاها من دنس سوءِ الأخلاق، وتخلقت بمكارم الأخلاق، حتى انسلختْ من عادات البشرية. اهـ.
وقال في القوت: الوقاية مقرونة بالنصرة؛ فإذا تولاَّه نَصَره على أعدائه، وأعْدى عدُوه نفْسُه، فإذا نَصَره عليها، أخرج الشهوة منها، فامتحنَ قلبَه للتقوى، ومحّض نفسَه، فخلّصها من الهوى. اهـ.


يقول الحق جلّ جلاله: {إِنَّ الذين يُنادونك من وراء الحجرات} من خارجها، أو: من خلفها، أو: من أمامها، فالوراء: الجهةُ التي تُواري عنك الشخص تُظلّله من خلف أو من قُدّام، و {مِن} لابتداء الغاية، وأنّ المناداة نشأت من ذلك المكان، والحجرة: الرقعة من الأرض، المحجورة بحائطٍ يحوط عليها، فعْلة، بمعنى مفعولة، كالقُبْضَة، والجمع: حُجُرات، بضمتين، وبفتح الجيم، والمراد: حجرات النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لكل امرأة حُجرة.
نزلت في وفد بني تميم، وكانوا سبعين، وفيهم عينيةُ بن حِصنُ الفزاري، والأقرعُ بن حابس، وفَدوا على النبي صلى الله عليه وسلم وقت الظهيرة، وهو راقد، فنادوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته، وقالوا: اخرجْ إلينا يا محمدُ؛ فإنَّ مَدْحَنَا زَيْنٌ، وذمّنا شيْن، فاستيقظ، وخرج عليه السلام وهو يقول: «ذلكم الله الذي مدحُه زين، وذمّه شين»، فقالا: نحن قوم من بني تميم، جئنا بشاعرنا وخطيبنا، لنُشاعركَ، ونُفاخرك، فقال صلى الله عليه وسلم: «ما بالشعر بُعثت، ولا بالفخار أُمرت»، ثم أمر صلى الله عليه وسلم خطيبهم فتكلّم، ثم قال لثابت بن قيس بن شماس- وكان خطيب النبي صلى الله عليه وسلم: قم، فقام، فخطب، فأقحم خطيبَهم، ثم قام شاب منهم، فأنشأ يقول:
نَحنُ الْكرامُ فَلاَ حَيٌّ يُعَادِلُنَا *** فينا الرُّؤوس وفينا يُقْسَمُ الرَّبعُ
ونُطعِمُ النَّاسَ عِندَ الْقَحطِ كُلَّهمُ *** إنَّا كَذَلِكِ عِنْدَ الْفخرُ نَرْتَفعُ
فقال صلى الله عليه وسلم لحسّان: قم فأجبه، فقال:
إنَّ الذوائبَ من فِهْرٍ وإخوتهمْ *** قَدْ شَرَّعوا سُنَّةً للناس تُتبعُ
يرضى بها كلُّ مَن كانت سريرتُه *** تَقوَى الإله وكلُّ الفخر يُصطنعُ
ثم قال الأقرع شعراً افتخر به، فقال عليه السلام لحسّان: قم فأجبه، فقال حسّان:
بَنِي دَارِمٍ لاَ تَفْخُروا إِنَّ فَخْرَكُمْ *** يَعُودُ وَبالاً عِنْد ذِكْرِ الْمكَارِمِ
هَبلْتُم عَليْنا تَفْخرُون وأَنْتُم *** لَنا خَوَلٌ من بَيْن ظِئْرٍ وخادِمِ
فقال صلى الله عليه وسلم: «لقد كنتَ غنياً عن هذا يا أخا بني دارم أن يذكر منك ما قد ظننت أن الناس قد نسوه»، ثم قال الأقرعُ: تكلم خطيبُنا، فكان خطيبهُم أحسن قِيلاً، وتكلم شاعرُنا فكان شاعِرُهم أشعر. اهـ.
هذا ومناداتُهم من وراء الحجرات؛ إما لأنهم أتَوْها حجرةً حجرة، فنادوه صلى الله عليه وسلم من ورائها، أو: بأنهم تفرقوا على الحجرات متطلبين له صلى الله عليه وسلم، أو: نادوه من وراء الحجرة التي كان فيها، ولكنها جُمعت إجلالاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: الذي ناداه عُيينةُ بن حصن والأقرعُ، وإنما أُسند إلى جميعهم لأنهم راضون بذلك وأَمروا به. {أكثرُهم لا يعقلون} إذ لو كان لهم عقل لَمَا تجاسروا على هذه العظيمة من سوء الأدب.
{ولو أنهم صبروا} أي: ولو تحقق صبرُهم وانتظارُهم، فمحل {أنهم صبروا} رفعٌ على الفاعلية؛ لأنَّ أنْ تسبك بالمصدر، لكنها تفيد التحقق والثبوت، للفرق بين قولك: بلغني قيامك، وبلغني أنك قائم، و {حتى} تُفيد أن الصبر ينبغي أن يكون مُغَيّاً بخروجه عليه السلام، فإنها مختصة بالغايات. والصبرُ. حبسُ النفس على أن تُنازع إلى هواها وقيل: الصبر مرٌّ، لا يتجرعه إلا حُرٌّ. أي: لو تأنوا حتى تخرج إليهم بلا مناداة؛ لكان الصبرُ خيراً لهم من الاستعجال، لِما فيه من رعاية حسن الأدب، وتعظيمِ الرسول، الموجبتين للثناء والثواب، والإسعاف بالمسؤول؛ إذ رُوي أنهم وفدوا شافعين في أسارى بني العَنبر، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم بعث سريةً إلى حي بني العنبر، وأمّرَ عليهم عُيينة بن حِصن، فهربوا وتركوا عيالهم، فسباهم عُيينة، ثم قَدِم رجالُهم يَفْدون الذراري، فلما رأتهم الذراريُّ أجهشوا إلى آبائهم يَبْكون، فعَجلوا أن يخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فنادَوْه حتى أيقظوه من نومه، فخرج إليهم، فأطلق النصف وفادى النصف، {والله غفور رحيم} بليغ المغفرة والرحمة واسعهما، فلن يضيق ساحتُهما عن هؤلاء إن تابوا وأصلحوا.
الإشارة: من آداب المريد ألاَّ يُوقظ شيخَه من نومه، ولو بقي ألف سنة ينتظره، وألاَّ يطلب خروجَه إليه حتى يخرجَ بنفسه، وألاَّ يقف قُبالة باب حجرته لئلا يرى بعض محارمه. ومن آدابه أيضاً: ألا يبيت معه في مسكن واحد، وألا يأكل معه، إلا أن يعزم عليه، وألا يجلس على فراشِه أو سجّادته إلا بأمره، وإذا تعارض الأمر والأدب، فهل يُقدّم الأمر أو الأدب؟ خلاف، وقد تقدم في صلاح الحديبية: أن سيدنا عليّاً- كرّم الله وجهه- قدَّم الأدب على الأمر، حين قال له صلى الله عليه وسلم: «امح اسم رسول الله من الصحيفة»، فأبى، وقال: «والله لا أمحول أبداً» والله تعالى أعلم.


يقول الحق جلّ جلاله: {يا أيها الذين آمنوا إِن جاءكم فاسق بنبأٍ} نزلت في الوليد بن عُبة بن أبي مُعَيْط، وكان من فضلاء الصحابة رضي الله عنهم بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني المُصْطلِق، بعد الوقعة مصدِّقاً، وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية، فخرجوا يتلقّونه، تعظيماً النبي صلى الله عليه وسلم، فظنّ أنهم مقاتلوه؛ فرجع، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: قد ارتدُّوا ومنعوا الزكاة، فَهمَّ صلى الله عليه وسلم أن يغزوهم، ثم أتوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأخبروه أنهم إنما خرجوا يتلقّونه تكرمةً؛ فاتهمهم النبي صلى الله عليه وسلم وبعث إليهم خالد بن الوليد خفيةً مع عسكر، وأمره أن يُخفي عليهم قدومَه، ويتطلعَ عليهم، فإن رأى ما يدلّ على إيمانهم؛ أخذ زكاتهم ورجع، وإن رأى غير ذلك؛ استَعمل فيهم ما يُستعمل في الكفار، فسمع خالدُ فيهم آذان صلاتي المغرب والعشاء، فأخذ صدقاتهم، ولم يرَ منهم إلا الطاعة، فنزلت الآية.
وسُمِّي الوليد فاسقاً لعدم تَثَبُّته؛ فخرج بذلك عن كمال الطاعة، وفي تسميته بذلك زجرٌ لغيره، وترغيبٌ له في التوبة، والله تعالى أعلم بغيبه، حتى قال بعضهم: إنها من المتشابه، لِمَا ثبت من تحقُّق إيمان الوليد. وقال أبو عمر في الاستيعاب: لا يصح أن الآية نزلت في قضية الوليد؛ لأنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من ثمانية أعوام، أو من عشرة، فكيف يبعثه رسولاً؟! اهـ. قلت: لا غرابةَ فيه، وقد كان صلى الله عليه وسلم يُؤَمِّر أسامةَ بن زيد على جيش، فيه أبو بكر وعمر، مع حداثة سِنِّه، كما في البخاري وغيره.
وفي تنكير {فاسق} و{نبأ} شِياعٌ في الفُسَّاق والأنباء، أي: إذا جاءكم فاسقٌ أيّ فاسقٍ كان، بأيِّ خبر {فتبَيَّنوا} أي: فتوقفوا فيه، وتطلَّبوا بيان الأمر وانكشافَ الحقيقة، ولا تعتمدوا قولَ مَن لا يتحرّى الصدق، ولا يتحامى الكذب، الذي هو نوع من الفسوق.
وفي الآية دليل على قبول خبر الواحد العَدل؛ لأنا لو توقفنا في خبره؛ لسوّينا بينه وبين الفاسق، ولخلا التخصيص به عن الفائدة. وقرأ الأخوان: {فثبتوا} والتثبُّت والتبيُّن متقاربان، وهما: طلبُ الثبات والبيان والتعرُّف.
{أن تُصيبوا} أي: لئلا تصيبوا {قوماً بجهالةٍ} حال، أي: جاهلين بحقيقة الأمر وكُنه القصة. {فتُصْبِحوا} فتصيروا {على ما فعلتم نادمين} مغتمِّين على ما فعلتم، متمنين أنه لم يقع، والندم: ضرب من الغلم؛ وهو أن يَغتم على ما وقع، يتمنى أنه لم يقع، وهو غم يصحبُ الإنسان صحبةً لها دوامٌ في الجملة.
{واعلموا انَّ فيكم رسولَ الله} فلا تكْذبوا، فإن الله يُخبره، فيهتك سر الكاذب، أو: فارجعوا إليه واطلبوا رأيه، ثم استأنف بقوله: {لو يُطيعُكم في كثير من الأمر لعَنتُّم} لوقعتم في العنت؛ وهو الجهد والهلاك.
والتعبيرُ بالمضارع للدلالة على أنّ عَنَتَهم إنما يلزم في استمرار طاعته لهم في كل ما يعرض من الأمور، وأما طاعته في بعض الأمور استئلافاً لهم، فلا. انظر أبا السعود. وهذا يدل على أنَّ بعض المؤمنين زيّن لرسول الله صلى الله عليه وسلم الإيقاع ببني المصطلق تصديقاً لقول الوليد، وأنَّ بعضهم كانوا يتصوّنون ويتحرّجون الوقوعَ بهم تأنياً وتثُبتاً في الأمر، وهم الذين استثناهم الله بقوله: {ولكنَّ الله حَبَّبَ إِليكم الإِيمانَ} وأسنده إلى الكل تنبيهاً على أن أكثرهم تحرّجوا الوقوعَ بهم وتأنّوا، وقيل: هم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى، وهو تجديدٌ للخطاب وتوجيه إلى بعضهم بطريق الاستدراك، بياناً لِبراءَتهم عن أوصاف الأولين وإحماداً لأفعالهم، أي: ولكنه- تعالى- جعل الإيمان محبوباً لديكم {وزيَّنه في قلوبكم} حتى رسخ فيها، ولذلك صدر منكم ما يليق به من التثبُّت والتحرُّج، وحاصل الآية على هذا: واعلموا أنَّ فيكم رسول الله، فلا تُقِرُّون معه على خطأ، لو يطيعكم في كثير من الأمر لَعَنِتُّم، ولكنَّ الله حبّب إلى بعضكم الإيمان، فلا يأمر إلا بما هو صواب من التأنِّي وعدم العجلة.
قلت: والأحسن في معنى الاستدراك: أنَّ التقدير: لو يُطيعكم في كثير من الأمر لَعَنِتُّم، ولكن الله لا يُقره على طاعتكم بل ينزل عليه الوحي بما فيه صلاحُكم وراحتكُم؛ لأنَّ الله حبَّبَ إليكم الإيمان وزيَّنيه في قلوبكم، فلا يسلك بكم إلا ما يليق بشأنكم من الحِفظ والعصمة.
ثم قال: {وكَرَّهِ إِليكم الكفرَ والفُسوق والعصيان} ولذلك تحرّجتم عمّا لا يليق مما لا خير فيه مما يؤدي إلى عَنَتِكم، قال ابن عرفة: العطف في هذه الآية تَدَلِّي؛ فالكفر أشدُّها، والفسوق دونه، والعصيان أخفّ؛ لصدقه على ترك المندوبات، حسبنا نقل ذلك البغداديون وحمَلوا عليه، ومَن لم يُجب الدعوة فقد عصى أبا القاسم. اهـ.
{أولئك هم الراشدون} أي: أولئك المستَثون، أو: المتَّصِفون بالإيمان، المزيّن في قلوبهم، هم السالكون على طريق السّوى، الموصل إلى الحق، أي: أصابوا طريقَ الحق، ولم يَميلوا عن الاستقامة. والرشدُ: الاستقامةُ على طريق الحق مع تصلُّبٍ فيه، من: الرشادة، وهي الصخرة الصماء. {فضلاً من الله ونِعمةً} أي: إفضالاً من الله وإنعاماً عليهم؛ مفعولٌ من أجله، أي: حبَّب وكرّه للفضل والنعمة عليهم {والله عليمٌ} مبالغ في العلم، فيعلم أحوالَ المؤمنين وما بينهم من التفاضل، {حكيمٌ} يفعل ما يفعل الحكمةٍ بالغة.
الإشارة: إن جاءكم خاطرُ سوء بنبأ سوءٍ فتبيّنوا وتثبّتوا، ولا تُبادروا بإظهاره، خشية أن تُصيبوا قوماً بجهالة، فتظنُّوا بهم السوء، وتقعوا في الغيبة، فتُصبحوا على ما فعلتم نادمين، فالمنافق قلبه على طرَف لسانه، إذا خطر فيه شيء نطق به، فهذا هالك، والمؤمن لسانه من رواء قلبه، إذا خطر شيءٌ نظر فيه، ووَزَنه بميزان الشرع، فإن كان فيه مصلحة نطق به، وإلا ردَّه وكتمه، فالواجبُ: وزن الخواطر بالقسطاس المستقيم، فلا يُظهر منها إلا ما يعود عليه منفعته.
{واعملوا أن فيكم رسولَ الله} قد بَيَّن لكم ما تفعلون وما تذرون، ظاهراً وباطناً، ومَن اتصل بخليفة الرسول، وهو الشيخ حكّمه على نفسه، فإن خطر في قلبه شيءٌ يهِمُّ أمرُه عَرَضه عليه، والشيخ ينظر بعين البصيرة، لو يُطيعكم في كثيرٍ من أمركم التي تعزمون عليها لَعَنِتُّم، ولكنَّ الله حبب إليكم الإيمانَ، وزيَّنه في قلوبكم، فتَستمعُون لما يأمركم به، وتمتثلون أمره، وكرَّه إليكم الكفر والفسوق؛ الخروجَ عن أمره ونهيه، والعصيان لما يأمرُكم به، فلا تَرون إلا ما يسرّكم، ويُفضي بكم إلى السهولة والراحة، فضلاً من الله ونعمة، فإنَّ السقوط على الشيخ إنما هو محض فضل وكرم، فللّه الحمد وله الشكر دائماً سرمداً.
وللقشيري إشارة أخرى، قال: {إن جاءكم فاسق بنبأ} يشير إلى تسويلات النفوس الأمّارة بالسوء، ومجيئها كل ساعة بنبأِ شهوةٍ من شهوات الدنيا، فتبيّنوا ربحَها من خسرانها، من قبل أن تُصيبوا قوماً من القلوب وصفائها بجهالة، فإنَّ ما فيه شفاءُ النفوس وحياتها فيه مرضُ القلوب ومماتُها؛ فتُصبحوا صباحَ القيامة على ما فعلتم نادمين، واعملوا أن فيكم رسولَ الله، يُشير إلى رسول الإلهام في أنفسكم، يُلهمكم فجور نفوسكم وتقواها، لو يُطيعكم في كثيرٍ من أمرِ النفس الأمّارة، لَعَنِتُّم؛ لوقعتم في الهلاك، ولكنّ الله حبَّب إليكم الإيمان بالإلهامات الربانية، وزيَّنه في قلوبكم بقلم الكَرَم، وكرَّه بنور نظر العناية إليكم الكفر، والفسوق: هو ستر الحق والخروج إلى الباطل، والعصيان، وهو الأعراض عن طلب الحق، أولئك هم الراشدون إلى الحق بإرشاد الحق، فضلاً من الله ونعمةً منه، يُنعم به على مَن شاء مِن عباده، {والله عليم حكيم}. اهـ.

1 | 2 | 3